بِأيَّةِ كلماتٍ أشرحُ سِراً؟ إِنَّ رُوحِي تَستَصْعِبُ شرحَ سرٍّ يفوقُ الإدراكَ والجمال، سرٍّ فريدٍ مِنْ نوعِهِ يرتقي بأفكارنا نحو العُلا. لا أستطيعُ أن أجدَ أيَّ شيءٍ لأقارنَ بِهِ هذا الحَدَث، فقد تَجاوزتِ حدودَ الطبيعةِ في حَبَلِكِ الإِلَهي.
مَنْ ذا الذي سَمِعَ قَبلاً بِعذراءَ تَحبلُ مِنْ دُونِ زَرْعٍ؟ أو أُماً تَلِدُ طِفلاً وهي عذراء؟ لقد حَبِلتِ بالإلهِ وولدْتِهِ إِنساناً. وأَمَّا في رُقادِكِ الـمُقَدَّسِ فَسَمَوتِ بغير قياسٍ عن كُلِّ البشر.
أنتِ وَحْدَكِ لَبِسْتِ المجدَ مِنْ ذاكَ الذي وُلِدَ منكِ، وهو إلهٌ وإنسانٌ في الوقتِ عَينِه. (القديس ثيودورس الاستوديتي-مديح في الرقا)
القنداق
إِنَّ وَالِدَةَ الإِلهِ الَّتي لا تَغْفُلُ في الشَّفاعات، والرجاءِ غَيرِ المردودِ في النَّجْدات، لم يَضبُطْها قَبرٌ ولا مَوتٌ. ولكن بما أنَّها أُمُّ الحياة، نَقَلَها إلى الحياةِ الذي حَلَّ في مُسْتَودَعِها الدَّائمِ البَتولية.
العيد
يكتُبُ القِديسُ مكسيموس المعترف في القرن السابع: ”العيد مُوَقَّرٌ من الملائكةِ والبشرِ معاً، وملكَتُه مُتَوَّجةٌ بالنعمةِ الإلهية إذ هي والدةُ الإله“.
ويُخاطِبُ القِدِّيسُ يوحنا الدمشقي والدةَ الإله في القرن الثامن فيقول: جسدُكِ خلقَهُ اللهُ وتجسَّدَ منه.
جسدُكِ الترابي ظَهَرَ مِنْهُ النورُ الحقيقيُّ الذي لا يَفنى، نُورُ الحياةِ الأبديّةِ والخالدة، والفرحُ الحقيقي، ونهرُ النعمة، وينبوعُ الأشفية، والبركةُ الأبدية.
من أجل كلِّ هذا لا أستطيعُ أن أَدعُوَ رحيلَكِ عنَّا مَوتاً بل رُقاداً أو سَفراً، لا بل إِقَامةً أبديةً في السماوات. بخروجِكِ من الجسدِ والتُّرابيَّةِ المحدودةِ دَخلتِ أَمداءً لا تعرفُ حُدوداً ولا يُدرِكُها فناء". (القديس يوحنا الدمشقي).
عيدُ الرُّقادِ يُؤكِّدُ على السِّرِّ الذي انكشفَ بالتجسّدِ وعَبَرَ بالصليبِ والقيامةِ رافعاً إِيَّانا إلى السماوات ومرسلاً لنا الروح القدس.
إنه عيدٌ يُعلِنُ للإنسان تألُّـهَهُ بالنعمةِ الإلهيّة، كيف لا وسَنَتُنَا الليتورجيةُ تبدأُ بِعِيدِ ميلادِ والدةِ الإله في الثامنِ من أيلول، وتنتهي بِعيدِ رقادها في الخامسَ عشرَ من آب، لتُبشِّرَنا بأنَّ من يولدْ ولادةً جديدةً مع الرّبّ، ومن يَعِشْ كلمةَ الرَّبِّ ويَعملْ بوصاياه، فهو وإن ذاقَ مُرَّ الصِعابِ والشدائد، يقُمْ معَ القائمِ ويصعدْ معه، ويَنَلِ الروحَ القدسَ ولا يُدرِكُهُ الموت.
إنها دورةٌ ليتورجيةٌ قياميّة، دعوةٌ أبديةٌ لكلِّ إنسانٍ يؤمنُ أنَّ الربَّ يسوعَ المسيحَ هُو إِلَهُهُ، فمَنْ آمنَ بِي وإِنْ مَاتَ فسيحيا.
جذور العيد
جذور العيد شرقيّة بامتيازٍ شديدٍ ويَكمُن في عُمقِ التاريخِ المسيحي، فتكريم والدة الإله أَعلنتْ مَبْدَأَهُ هي نَفسُها حين قالت: "تطوِّبني جميع الأجيال"، وأدركتِ الجماعةُ المسيحيةُ الأولى مكانةَ العذراءِ وشفاعتَها مُشرِّفَةً اسمَها في صلواتٍ جمَّةٍ ما انفكَّتِ الليتورجية الأرثوذكسيةُ ترفَعُها.
انبثقَ هذا العيد من رَحِمِ إيمانِ المؤمنين بالرّبّ وعبادتِهم له، وتكريمهم لوالدة الإله والقدّيسين. لكنَّ الباحثين التاريخيّين والمتخصّصين سجَّلوا ملاحظاتٍ عديدةً حولَ بُزوغِ التعييدِ لهذا الحدثِ الـمَهيب تعودُ إلى القرن الثاني ميلادي.
إذ سُجِّلَ وجود عيد مَريميّ عظيمٍ كان يُوقَّر بخدمةٍ ليتورجيَّةٍ تُقام في الخامسَ عشرَ من شهرِ آب في أورشليم وذلك منذُ القرنِ الأولِ الميلادي، بالإضافةِ إلى وجودَ احتفالاتٍ ليتورجيَّةٍ كبيرةٍ في الجسثمانية، وتحديداً في مكان قِيل أنَّه قبرُ العذراء حيث بَنَتِ الامبراطورة أثيناييس-إيذوكسيّا كنيسة عام 460م.
ما نعرفُهُ أكيداً هو أنَّ العيدَ كانَ مُنتَشِراً في كلِّ أرجاءِ الإمبراطوريةِ على عهدِ الإمبراطور موريس بين عامي 582-602م. وابتداءً من تلكَ الفترةِ تَزاحمَ كبارُ اللاهوتيين وشعراءُ الكنيسة وخُطباؤها لتكريمِ والدةِ الإله ورقادِها.
ما يرافق العيد
أصبحَ عيدُ الرقادِ مَسبوقاً بصومٍ لمدةِ خمسةَ عشرَ يوماً منذُ عهدِ القدّيسِ ثيودورس الاستوديتي (759-826م)، وبهذا ناهزَ أهميّةَ الأعيادِ الكبيرة في الكنيسة.
يُرتَّلُ في فترةِ الصوم هذا كلَّ مساءٍ صلاةٌ ابتهاليةٌ تُعرَفُ بصلاةِ البراكليسي أي التضرّع، وهي صلوات انتشرتْ بين المؤمنينَ معَ انتشارِ طَلَبِ شفاعةِ والدةِ الإله الذي بَدَأَ منذُ القرونِ الأولى.
وتدريجيًّا أصبح شهر آب شهراً مُكرَّساً لوالدةِ الإله لوقوعِ عيدِ رُقادِها في وَسَطِهِ، ومِنْ هُنا صارَ يُعرَف شهرُ آب بالشَّهْرِ المريميِّ شهرِ العذراءِ مريمَ والدة الإله.
الأيقونة
بقِيَ الرَّسْمُ الأيقونوغرافي لِعِيدِ رُقاد السيدة، بخطوطِهِ العريضةِ، ثابتاً على مدى الأجيال. اختلفتْ بعضُ المشاهدِ المحيطةِ بالمشهَدِ الأساسيِّ وبَقِيَ هو ثابتاً.
العذراءُ راقدةٌ وأمامَها الربُّ يسوعُ المسيح ينظرُ إليها مُتقبِّلاً بين يديهِ رُوحَها الطاهرةَ والتي نراها بهيئةِ طفلةٍ صغيرةٍ رسماً لبراءتها ونقاوتها.
تبدو أيقوناتُ رقادِ السيدة منظومةً بأسلوبٍ شِعرِيٍّ، كما يقول القديس يوحنا الدمشقي، وهذا النَّظْمُ نجدُهُ جَلِياً في البراكليسي عندما نرتلُ أثناءَ تقدُّمِ المؤمنينَ لتقبيلِ الأيقونة: "أيُّها الرسلُ اجتمعوا مِنَ الأقطارِ إلى هنا، في قرية الجسثمانية، وأَضجعوا جسدي، وأنتَ تقبَّلْ روحي، يا ابني وإلهي".
نُشاهِدُ سُحُباً صغيرة تَحملها الملائكة في بعض الأيقونات، وفي وسط السُحُبِ التلاميذُ الإثنا عشر كَلَآلِئَ في صَدَفة.
نُشاهِدُ في أيقوناتٍ أخرى سَحَابَتَينِ فقط، واحدةً في كُلِّ جهةٍ من القِسم العلوي، والرسل الاثنا عشر متوزعون عليهما مُناصَفَةً.
مع أن العيد هو لوالدة الإله إلّا أن كلّ الخطوطِ الأساسيةِ التي بُنيتْ عليها أيقونةُ رقاد والدة الإله تلتقي في وَسَطِهَا عِندَ الهالةِ المضيئةِ المحيطةِ بالسَّيِّد، إذ لا نجدُ مركزَ الأيقونةِ مُخَصَّصاً لوالدةِ الإله، بل للسيِّدِ الضابطِ الكُل لأنّه هو المخلّص.
المعنى عميقٌ ويعبِّرُ عن تلاقي الأُلوهيَّةِ بالإنسانيَّةِ فيتجلَّى الاثنان معاً في هذه الأيقونةِ البهيَّة.
فالأيقونةُ ليستْ جَامِدَةً بل تُعَبِّرُ عن انعطافٍ إلهيٍ نحو الإنسان، تلقَّفها الإلهُ وعادَ معها من حيثُ أتى.
الشخصيّتانِ الأساسيّتانِ في هذه الأيقونة، الربُّ يسوعُ ووالدته، نراهُما في خطَّين متعامِدَين، يلتَقيانِ فَيُتِمَّانِ الحَدَثَ البَهيّ.
الخطُّ العموديُّ هو في وَسَطِ الأيقونةِ تماماً ويشكِّلُ مِحورَ الحَدَثِ بِرُمَّتِهِ، إنَّهُ الخطُّ الذي يَكشِفُ لنا سَهَرَ اللهِ ومحبَّتَهُ للبشر.
إِنَّهُ لا يَقْبَلُ إلا أن يَلتَقِيَ بالخطِّ الأفقي، والخطُّ الأفقيُّ يشتهي أن يلتقيَ بالخطِّ العمودي.
يس من وليدِ الصُّدْفَةِ أن يكونَ الخطُّ الأفقيُّ موضوعاً في النِّصفِ السُّفلِيِّ من الأيقونة، عُنْوانُهُ العذراءُ مريم، أيِ الإنسانية، الإنسانيةُ التي إذا قَبِلَتِ الزرعَ الإلهيَّ تُثْمِرُ وتنتقِلُ إلى الحياة الأبدية، فلقاءُ الخطَّينِ هو حياةٌ وفداء.
تضعُ الأيقونةُ أمامَ أعينِ المؤمنينَ اللحظةَ القُصوى للضُّعْفِ البشري، أي الموت، وحاجَتِهِ أن يلتقيَ بالله، حاجَتِهِ للحياة، لتصبحَ البشريةُ واحدةً في الله.
المسيحُ قامَ مِنْ بينِ الأموات، وهنا أيضاً أقامَنا معهُ من بين الأموات.
فالأيقونة هذه هي مائدةٌ روحيةٌ، عرسٌ سماويٌّ، نرتّلُ أمامَ هذا المشهد: افرحي يا عروساً لا عروس لها.
عبرة العيد
نحن مدعوونَ إلى عرسٍ قياميٍّ أبدي، هذا ما تريدُ الأيقونةُ أن تُظهِرَه لنا، فكلُّ من أكلَ وشَرِبَ من المائدةِ الروحية، أي جسدِ الرب ودمِه، لا يعرفُ الموت.
إنَّ الربَّ بنفسِهِ أخذَ من العذراءِ الممدّدةِ هنا جسدَهُ ودمَهُ، وبهذا اللقاءِ الإلهيّ الإنساني أصبحتِ السماءُ على الأرض، وعَجِزَ كلُّ من أرادَ أن يَصِفَ ما حدث، فاستغنى عن كلِّ كلماتِهِ بكلمةٍ واحدة: مباركةٌ أنت بين النساء.
ألا نكرّم والدة الإله كما قالت في تَسبِحَتَها: "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ".